النصـرانيـة
صفحة 1 من اصل 1
النصـرانيـة
:بس:
التعريف:
تطلق النصرانية على الدين المنـزل من الله تعالى على عيسى(ع)، وكتابها الإنجيل، وأتباعها يقال لهم النصارى نسبةً إلى بلدة الناصرة في فلسطين، أو إشارة إلى صفة، وهي نصرهم لعيسى(ع)، وتناصرهم فيما بينهم، وكانت هذه الصفة تخصّ المؤمنين منهم في أول الأمر، ولم يلبث أن أطلقت عليهم كلهم على وجه التغليب.
كان النصارى يجمعون على أن مريم حملت بالمسيح(ع) وولدته في بيت لحم في فلسطين، وأنّه تكلم بالمهد، وأنكر عليها اليهود ذلك، ففرّت به إلى مصر ثم عادت به إلى الشام وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة، فنـزلت به القرية المسماة ناصرة، وبقي فيها إلى أن ألقى الرومان القبض عليه وسعوا به إلى عامل قيصر ملك الروم على الشام.
كان له اثنا عشر حوارياً بعثهم رسلاً إلى الأقطار للدعاية إلى دينه، أشهرهم أربعة الذين تصدوا لكتابة الإنجيل، وهم بطرس ومتى ولوقا ويوحنا، تعرضوا فيها لسيرة المسيح(ع) من حين ولادته إلى حين رفعه، وكتب كل منهم نسخة على ترتيب خاص بلغة من اللغات.
بين النصرانية والمسيحية
وقد جاء في إحدى القراءات: أنه بعد ارتفاع يسوع حياً إلى السماء، ونزول الروح القدس على رسله وصحابته، اندفعوا بالدعوة للإنجيل، وطالما بقيت الدعوة محصورة في فلسطين كانو يسمون "نصارى"؛ فلما انتشرت الدعوة المسيحية في سوريا أخذ الناس يسمونهم "المسيحيين".
فصحابة المسيح ورسله في بيئتهم اليهودية يجمعون في ألقاب يسوع اللقب النبوي "المسيح" الذي يؤمنون به، واللقب القومي الذي به يعرفون "الناصري"، وقد سمى اليهود الجاحدين مسيحية يسوع أتباع السيد المسيح بالناصريين أو نصارى.
وهذا ما يكشف عنه في نص عند تقديم بولس الرسول في أورشليم للمحاكمة المدنية لدى الوالي الروماني فيلكس، فرفع الدعوة عليه باسم المجلس اليهودي الأعلى المحامي ترتلس الشهير عندهم، قال: "إننا إذ وجدنا هذا الرجل مفسداً ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكوفة ومقدام شيعة الناصريين، وقد شرع أن ينجس الهيكل أيضاً، أمسكناه وأردنا أن نحكم عليه حسب ناموسنا، فأقبل ليسياس الأمير بعنف شديد وأخذه من بين أيدينا وأمر المشتكين عليه أن يأتوا إليك، ومنه يمكنك إذا محصت أن تعلم جميع هذه الأمور التي نشتكي بها عليه، ثم وافقه اليهود أيضاً قائلين: إن هذه الأمور هكذا". أعمال 24: 1ـ10.
ثم انتشرت الدعوة المسيحية خارج فلسطين، وقام بها كطلائع للرسل، صحابة المسيح، اليهود الهلينيون الذين ولدوا في المهاجر ونشأوا على الثقافة اليونانية، ثم آمنوا بالمسيح.
وبسبب ثقافتهم والحرية الدينية التي تعوّدوا عليها في مهاجرهم، كانوا أجرأ الناس دعوةً للمسيحية، حتى في أورشليم، فثارت عليهم السلطات اليهودية وقتلت زعيمهم اسطفان (اع7:54ـ60)، وشتتوهم خارج فلسطين، "فاجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود فقط، ولكن كان منهم قوم وهم رجال قبرصيون وقيروانيون الذين لما دخلوا أنطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع، وكانت يد الرب معهم، فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب". أعمال 11:19ـ21.
وهنا يذكر سفر أعمال الرسل، وهو تاريخ تأسيس المسيحية: (وفي أنطاكية أولاً دعي التلاميذ مسيحيين) اع11:27.
ومنذئذ شاع هذا الاسم مع الدعوة في أقطار الدولة الرومانية، ثم في أقطار الأرض كلها. فالمسيحيون هم من الأمميين، وهكذا صار اسم تلاميذ المسيح من بني إسرائيل (نصارى)، وصار اسمهم من الأمميين (مسيحيين)، وهذا الانقسام في الاسم بسبب البيئة سيجر إلى انقسام في العقيدة. أما الرأي الآخر، فيردُّ أن سبب الاختلاف في التسمية بين المسيحية والنصرانية إنما يعود إلى الاختلاف في البيئة والثقافة في الأمة الواحدة.
وكما كان المسيح مع دعوته بالإنجيل يمارس الشريعة الموسوية، كان الرسل صحابته في دعوتهم للمسيحية يمارسون الشريعة الموسوية، فيتردّدون على الهيكل، ويحفظون الأعياد اليهودية ويحافظون على الختان والصوم وسائر أحكام التوراة، لأنها أمست جزءاً من قوميتهم.
كان أتباع المسيح من اليهود، وعلى رأسهم آل البيت، يقيمون التوراة والإنجيل معاً؛ وينادون بالإيمان بموسى وعيسى معاً؛ ويرفعون شعار العماد والختان معاً.
ولكن المسيحية ما لبثت أن انتشرت بين الأمميين، وتكاثر عدد المسيحيين من الأمم حتى فاق عدد أهل الكتاب من اليهود المتنصرين، وكان هؤلاء يهتدون دون أن يتهوّدوا ويخضعوا لشريعة موسى والختان، ما أدى إلى إيجاد حالة من السلوك المتعارض بين الفريقين، فالنصارى اليهود يقولون بإقامة التوراة والإنجيل، والمسيحيون من الأمميين يقولون بالإنجيل وحده من دون الشريعة الموسوية والختان.
وتزعم مقالة النصارى آل بيت المسيح وعلى رأسهم أبناء قلوبا عم المسيح بحسب البشرية، الذين يسمونهم لهذه القرابة "أخوة الرب"، وكان زعيمهم يعقوب (أخو الرب) أول أسقف على أورشليم، بوجود الرسل أنفسهم، وبدأ يظهر هؤلاء تشيعهم للشريعة ولآل بيت المسيح، على حساب المسيحية العامة عند هداية جماعة الفريسيين (أعمال 15:5).
وتزعم مقالة المسيحيين من غير أهل الكتاب بولس، رسول الأمم، منذ هدايته وبعثته. فكان في رسالاته ورسائله، إيلافاً للدعوة المسيحية بين الأمم غير الكتابية، يدعو إلى المسيحية من اليهودية وشريعتها وختانها.
قال السيد المسيح "أول الوصايا هي: إسمعوا يا إسرائيل، الرب ربنا إله واحد" (مرقس 12ـ29).
التثـليث
ولكن المسيحية خرجت عن مفهوم وحدة الإله واتبعت بدلاً منه معتقداً غامضاً صيغ خلال القرن الرابع الميلادي، وهذا المعتقد الذي لا يزال حتى الآن موضع خلاف داخل الديانة المسيحية وخارجها، هو معتقد التثليث، وببساطة، فإن معتقد التثليث ينص على أن الله هو اتحاد بين ثلاث أشخاص مقدسين، الأب والإبن والروح القدس في كيان مقدس واحد.
ويجمع النصارى أن الله تعالى واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنومية ويفسرون الجوهر بالذات والأقنومية بالصفات، كالوجود والعلم والحياة ويعبرون عن الذات مع الحياة بروح القدس، ويعبرون عن الإله باللاهوت وعن الإنسان بالناسوت ويلقون العلم على الكلمة التي ألقيت إلى مريم(ع) فحملت منها بالمسيح(ع) ويخصونه بالاتحاد دون غيره من الأقانيم.
واجتمع منهم نفر من ثلاثمائة وثمانية عشر، وقيل وسبعة عشر أسقفاً من أساقفتهم بمدينة نيقية من بلاد الروم بحضرة قسطنيطين ملك الروم عند ظهور أريوش الأسقف وقوله: إن المسيح مخلوق، وإن القديم هو الله تعالى وألّفوا عقيدة استخرجوها من أناجيلهم لقّبوها بالأمانة، من خرج عنها خرج عن دين النصرانية، ونصّها على ما ذكره الشهرستاني في "الملل والنحل" وابن العميد ما صورته: "نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد أيشوع المسيح ابن الله بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد بروح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام بيلاطوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد الحي الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثيليقية وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أبد الآبدين"، ووضعوا معها قوانين لشرائعهم سموها الهيمانوت.
ثم اجتمع منهم جمع بقسطنطينية عند دعوى مقدونيوس المعروف بعدو روح القدس وقوله: إن روح القدس مخلوق وزادوا في الأمانة المتقدمة الذكر ما نصّه: "ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من الأب"، ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلام الأمانة أو ينقص منها.
كان النصارى، كما جاء في قانون الإيمان الأثناسيوسي يعبدون "إلهاً واحداً في ثلاثة وثلاثة في واحد هو الأب، وآخر هو الإبن، وثالث هو الروح القدس، وهم جميعاً شخص واحد، وليسوا ثلاثة آلهة، وإنما إله واحد والثلاثة معاً خالدون ومتساوون، ويجب عل كل من يأمل في الخلاص أن يؤمن بالتثليث على هذا النحو..".
يمكن القول بأن الإشارات التي وردت في الإنجيل إلى التثليث غامضة، وربما أمكن القول بأن الإنجيل لا يشير في حقيقة الأمر إلى ذلك مطلقاً. ففي إنجيل متى (28ـ19)، نرى المسيح(ع) يطلب من حوارييه أن يبلغوا رسالته لجميع الأمم، وفي هذا التكليف الذي يسمى "التكليف العظيم"، يمكننا أن نرى أن عبارة "معمدين إياهم باسم الأب والابن والروح القدس" هي إضافة للنص التوراتي ولم يقلها المسيح(ع)، وذلك للسببين التاليين:
1 ـ كان التعميد خلال الفترات الأولى من التاريخ الكنسي، حسبما وصفه بولص في رسائله، يتم باسم المسيح (وليس باسم الأب والابن الروح القدس).
2 ـ ورد "التكليف العظيم" في أول إنجيل تمّ تدوينه، وهو إنجيل مرقص، دون ذكر لأسماء الأب أو الابن أو الروح القدس. (مرقص، 16ـ15).
أما الإشارة الأخرى الوحيدة للتثليث في الإنجيل فهي في الرسالة الإنجيلية الأولى (يوحنا:5ـ7). غير أن الباحثين المعاصرين يعترفون بأن هذه العبارة التي تقول بأن "هناك ثلاثة يسجلون في السماء: الأب والكلمة والروح القدس، وهم الثلاثة واحد"، هي إضافات تمّت في فترة تالية، ولا توجد في أي من نسخ الإنجيل الموجودة اليوم.
ومن هنا يمكننا أن نرى أن مفهوم التثليث لم يذكره المسيح(ع) أو أي من الرسل، وأن هذا المعتقد، الذي يؤمن به جميع المسيحيين في العالم، إنما هو من اختراع البشر.
إرساء القواعد
بينما نجد أن بولس الطرسوسي الذي يمكن اعتباره المؤسس الفعلي للديانة المسيحية، قد صاغ الكثير من معتقداتها، فإن معتقد التثليث لم يكن من ضمن المعتقدات التي صاغها، غير أنه أرسى أسس هذا المعتقد عندما نادى بفكرة أن المسيح (ابن مقدس). فالابن يحتاج الأب، ومن الأفضل أن تكون هناك وسيلة يوحي من خلالها الله إلى البشر، ويمكننا القول أو بولس قد ذكر الأسماء الرئيسية، ثم قام رجال الدين المسيحي بعد ذلك بتجميع هذه الأفكار في معتقد واحد.
وكان أول من استخدم كلمة "تثليث" هو ترتوليان، وهو محام وكاهن عاش في قرطاجة خلال القرن الثالث الميلادي، عندما أعلن نظريته التي تقول بأن الابن والروح القدس يشتركان في كينونة الإله، وإن كانا هما والأب عبارة عن كيان واحد.
وهنا بدأت صياغة معتقد رسمي واحتدم النـزاع حول موضوع التثليث في عام 318 بين رجلي دين من الاسكندرية، هما آريوس شمّاس كنيسة الاسكندرية وألكسندر مطرانها، وتدخل الإمبراطور قسطنطين في النـزاع.
ورغم أن العقيدة المسيحية كانت تمثل لقسطنطين لغزاً لا يقدر على فهمه، إلا أنه أدرك أن وجود كنيسة موحدة أمر ضروري لكي تحافظ مملكته على قوتها، وعندما فشلت المفاوضات في حسم الأمر، دعا قسطنطين إلى عقد المجلس الكنسي الأول في تاريخ الديانة المسيحية لحسم هذا النـزاع.
وبعد ستة أسابيع، في عام 325، اجتمع ثلاثمائة من المطارنة في نقوسيا، وانتهى المجلس الكنسي الأول إلى فرض مبدأ التثليث، وبدءاً من ذلك الحين، أصبح الإله الذي يؤمن به المسيحيون يتكوّن من ثلاثة كيانات، أو طبائع، في هيئة الأب والابن والروح القدس.
الكنيسة ترمي بثقلها
ولكن الموضوع ظلّ أبعد ما يكون عن الحسم، بالرغم مما كان يأمل فيه الإمبراطور قسطنطين، وبدأ آريوس يتناقش مع مطران الاسكندرية الجديد، وهو أثناسيوس، حتى أثناء توقيع القانون الإيماني النيقوسي، ومنذ ذلك الحين أصبحت "الآريوسية" صفة لكل من لا يؤمن بالتثليث.
غير أن القانون الإيماني النيقوسي ـ القسطنطيني لم يكتسب صفة الرسمية إلا في عام 451 بموافقة البابا، خلال انعقاد المجلس الكنسي في تشالسيدونيا، واعتبر التفوّه بما يعارض التثليث كفراً وهرطقة، وكان نصيب من يفعلون ذلك أحكاماً تتراوح بين التشويه الجسدي والموت، وأخذ المسيحيون يقتلون ويشوّهون الآلاف من إخوتهم المسيحيين بسبب اختلاف الرأي.
ويستمر النقاش غير أن العقوبات الوحشية وأحكام الموت لم تُنْهِ الخلاف على التثليث، ولا يزال هذا الخلاف مستمراً حتى الآن.
واستمرّ أتباع مذهب الموحّدين المسيحي على إيمانهم بآراء آريوس في القول بأن الله واحد، ولا يؤمن أتباع هذا المذهب بالتثليث، ولذلك فإن غالبية المسيحيين يحتقرونهم، ولم يوافق المجلس القومي للكنائس على قبولهم، ويعتقد أتباع هذا المذهب أن هناك أملاً في أن يعود المسيحيون إلى تعاليم المسيح الحقة، التي نراها في الإنجيل في الآية التالية: "أعبد الرب إلهك، اعبده وحده" (لوقا، 4ـ8).
التعريف:
تطلق النصرانية على الدين المنـزل من الله تعالى على عيسى(ع)، وكتابها الإنجيل، وأتباعها يقال لهم النصارى نسبةً إلى بلدة الناصرة في فلسطين، أو إشارة إلى صفة، وهي نصرهم لعيسى(ع)، وتناصرهم فيما بينهم، وكانت هذه الصفة تخصّ المؤمنين منهم في أول الأمر، ولم يلبث أن أطلقت عليهم كلهم على وجه التغليب.
كان النصارى يجمعون على أن مريم حملت بالمسيح(ع) وولدته في بيت لحم في فلسطين، وأنّه تكلم بالمهد، وأنكر عليها اليهود ذلك، ففرّت به إلى مصر ثم عادت به إلى الشام وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة، فنـزلت به القرية المسماة ناصرة، وبقي فيها إلى أن ألقى الرومان القبض عليه وسعوا به إلى عامل قيصر ملك الروم على الشام.
كان له اثنا عشر حوارياً بعثهم رسلاً إلى الأقطار للدعاية إلى دينه، أشهرهم أربعة الذين تصدوا لكتابة الإنجيل، وهم بطرس ومتى ولوقا ويوحنا، تعرضوا فيها لسيرة المسيح(ع) من حين ولادته إلى حين رفعه، وكتب كل منهم نسخة على ترتيب خاص بلغة من اللغات.
بين النصرانية والمسيحية
وقد جاء في إحدى القراءات: أنه بعد ارتفاع يسوع حياً إلى السماء، ونزول الروح القدس على رسله وصحابته، اندفعوا بالدعوة للإنجيل، وطالما بقيت الدعوة محصورة في فلسطين كانو يسمون "نصارى"؛ فلما انتشرت الدعوة المسيحية في سوريا أخذ الناس يسمونهم "المسيحيين".
فصحابة المسيح ورسله في بيئتهم اليهودية يجمعون في ألقاب يسوع اللقب النبوي "المسيح" الذي يؤمنون به، واللقب القومي الذي به يعرفون "الناصري"، وقد سمى اليهود الجاحدين مسيحية يسوع أتباع السيد المسيح بالناصريين أو نصارى.
وهذا ما يكشف عنه في نص عند تقديم بولس الرسول في أورشليم للمحاكمة المدنية لدى الوالي الروماني فيلكس، فرفع الدعوة عليه باسم المجلس اليهودي الأعلى المحامي ترتلس الشهير عندهم، قال: "إننا إذ وجدنا هذا الرجل مفسداً ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكوفة ومقدام شيعة الناصريين، وقد شرع أن ينجس الهيكل أيضاً، أمسكناه وأردنا أن نحكم عليه حسب ناموسنا، فأقبل ليسياس الأمير بعنف شديد وأخذه من بين أيدينا وأمر المشتكين عليه أن يأتوا إليك، ومنه يمكنك إذا محصت أن تعلم جميع هذه الأمور التي نشتكي بها عليه، ثم وافقه اليهود أيضاً قائلين: إن هذه الأمور هكذا". أعمال 24: 1ـ10.
ثم انتشرت الدعوة المسيحية خارج فلسطين، وقام بها كطلائع للرسل، صحابة المسيح، اليهود الهلينيون الذين ولدوا في المهاجر ونشأوا على الثقافة اليونانية، ثم آمنوا بالمسيح.
وبسبب ثقافتهم والحرية الدينية التي تعوّدوا عليها في مهاجرهم، كانوا أجرأ الناس دعوةً للمسيحية، حتى في أورشليم، فثارت عليهم السلطات اليهودية وقتلت زعيمهم اسطفان (اع7:54ـ60)، وشتتوهم خارج فلسطين، "فاجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود فقط، ولكن كان منهم قوم وهم رجال قبرصيون وقيروانيون الذين لما دخلوا أنطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع، وكانت يد الرب معهم، فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب". أعمال 11:19ـ21.
وهنا يذكر سفر أعمال الرسل، وهو تاريخ تأسيس المسيحية: (وفي أنطاكية أولاً دعي التلاميذ مسيحيين) اع11:27.
ومنذئذ شاع هذا الاسم مع الدعوة في أقطار الدولة الرومانية، ثم في أقطار الأرض كلها. فالمسيحيون هم من الأمميين، وهكذا صار اسم تلاميذ المسيح من بني إسرائيل (نصارى)، وصار اسمهم من الأمميين (مسيحيين)، وهذا الانقسام في الاسم بسبب البيئة سيجر إلى انقسام في العقيدة. أما الرأي الآخر، فيردُّ أن سبب الاختلاف في التسمية بين المسيحية والنصرانية إنما يعود إلى الاختلاف في البيئة والثقافة في الأمة الواحدة.
وكما كان المسيح مع دعوته بالإنجيل يمارس الشريعة الموسوية، كان الرسل صحابته في دعوتهم للمسيحية يمارسون الشريعة الموسوية، فيتردّدون على الهيكل، ويحفظون الأعياد اليهودية ويحافظون على الختان والصوم وسائر أحكام التوراة، لأنها أمست جزءاً من قوميتهم.
كان أتباع المسيح من اليهود، وعلى رأسهم آل البيت، يقيمون التوراة والإنجيل معاً؛ وينادون بالإيمان بموسى وعيسى معاً؛ ويرفعون شعار العماد والختان معاً.
ولكن المسيحية ما لبثت أن انتشرت بين الأمميين، وتكاثر عدد المسيحيين من الأمم حتى فاق عدد أهل الكتاب من اليهود المتنصرين، وكان هؤلاء يهتدون دون أن يتهوّدوا ويخضعوا لشريعة موسى والختان، ما أدى إلى إيجاد حالة من السلوك المتعارض بين الفريقين، فالنصارى اليهود يقولون بإقامة التوراة والإنجيل، والمسيحيون من الأمميين يقولون بالإنجيل وحده من دون الشريعة الموسوية والختان.
وتزعم مقالة النصارى آل بيت المسيح وعلى رأسهم أبناء قلوبا عم المسيح بحسب البشرية، الذين يسمونهم لهذه القرابة "أخوة الرب"، وكان زعيمهم يعقوب (أخو الرب) أول أسقف على أورشليم، بوجود الرسل أنفسهم، وبدأ يظهر هؤلاء تشيعهم للشريعة ولآل بيت المسيح، على حساب المسيحية العامة عند هداية جماعة الفريسيين (أعمال 15:5).
وتزعم مقالة المسيحيين من غير أهل الكتاب بولس، رسول الأمم، منذ هدايته وبعثته. فكان في رسالاته ورسائله، إيلافاً للدعوة المسيحية بين الأمم غير الكتابية، يدعو إلى المسيحية من اليهودية وشريعتها وختانها.
قال السيد المسيح "أول الوصايا هي: إسمعوا يا إسرائيل، الرب ربنا إله واحد" (مرقس 12ـ29).
التثـليث
ولكن المسيحية خرجت عن مفهوم وحدة الإله واتبعت بدلاً منه معتقداً غامضاً صيغ خلال القرن الرابع الميلادي، وهذا المعتقد الذي لا يزال حتى الآن موضع خلاف داخل الديانة المسيحية وخارجها، هو معتقد التثليث، وببساطة، فإن معتقد التثليث ينص على أن الله هو اتحاد بين ثلاث أشخاص مقدسين، الأب والإبن والروح القدس في كيان مقدس واحد.
ويجمع النصارى أن الله تعالى واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنومية ويفسرون الجوهر بالذات والأقنومية بالصفات، كالوجود والعلم والحياة ويعبرون عن الذات مع الحياة بروح القدس، ويعبرون عن الإله باللاهوت وعن الإنسان بالناسوت ويلقون العلم على الكلمة التي ألقيت إلى مريم(ع) فحملت منها بالمسيح(ع) ويخصونه بالاتحاد دون غيره من الأقانيم.
واجتمع منهم نفر من ثلاثمائة وثمانية عشر، وقيل وسبعة عشر أسقفاً من أساقفتهم بمدينة نيقية من بلاد الروم بحضرة قسطنيطين ملك الروم عند ظهور أريوش الأسقف وقوله: إن المسيح مخلوق، وإن القديم هو الله تعالى وألّفوا عقيدة استخرجوها من أناجيلهم لقّبوها بالأمانة، من خرج عنها خرج عن دين النصرانية، ونصّها على ما ذكره الشهرستاني في "الملل والنحل" وابن العميد ما صورته: "نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد أيشوع المسيح ابن الله بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد بروح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام بيلاطوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد الحي الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثيليقية وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أبد الآبدين"، ووضعوا معها قوانين لشرائعهم سموها الهيمانوت.
ثم اجتمع منهم جمع بقسطنطينية عند دعوى مقدونيوس المعروف بعدو روح القدس وقوله: إن روح القدس مخلوق وزادوا في الأمانة المتقدمة الذكر ما نصّه: "ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من الأب"، ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلام الأمانة أو ينقص منها.
كان النصارى، كما جاء في قانون الإيمان الأثناسيوسي يعبدون "إلهاً واحداً في ثلاثة وثلاثة في واحد هو الأب، وآخر هو الإبن، وثالث هو الروح القدس، وهم جميعاً شخص واحد، وليسوا ثلاثة آلهة، وإنما إله واحد والثلاثة معاً خالدون ومتساوون، ويجب عل كل من يأمل في الخلاص أن يؤمن بالتثليث على هذا النحو..".
يمكن القول بأن الإشارات التي وردت في الإنجيل إلى التثليث غامضة، وربما أمكن القول بأن الإنجيل لا يشير في حقيقة الأمر إلى ذلك مطلقاً. ففي إنجيل متى (28ـ19)، نرى المسيح(ع) يطلب من حوارييه أن يبلغوا رسالته لجميع الأمم، وفي هذا التكليف الذي يسمى "التكليف العظيم"، يمكننا أن نرى أن عبارة "معمدين إياهم باسم الأب والابن والروح القدس" هي إضافة للنص التوراتي ولم يقلها المسيح(ع)، وذلك للسببين التاليين:
1 ـ كان التعميد خلال الفترات الأولى من التاريخ الكنسي، حسبما وصفه بولص في رسائله، يتم باسم المسيح (وليس باسم الأب والابن الروح القدس).
2 ـ ورد "التكليف العظيم" في أول إنجيل تمّ تدوينه، وهو إنجيل مرقص، دون ذكر لأسماء الأب أو الابن أو الروح القدس. (مرقص، 16ـ15).
أما الإشارة الأخرى الوحيدة للتثليث في الإنجيل فهي في الرسالة الإنجيلية الأولى (يوحنا:5ـ7). غير أن الباحثين المعاصرين يعترفون بأن هذه العبارة التي تقول بأن "هناك ثلاثة يسجلون في السماء: الأب والكلمة والروح القدس، وهم الثلاثة واحد"، هي إضافات تمّت في فترة تالية، ولا توجد في أي من نسخ الإنجيل الموجودة اليوم.
ومن هنا يمكننا أن نرى أن مفهوم التثليث لم يذكره المسيح(ع) أو أي من الرسل، وأن هذا المعتقد، الذي يؤمن به جميع المسيحيين في العالم، إنما هو من اختراع البشر.
إرساء القواعد
بينما نجد أن بولس الطرسوسي الذي يمكن اعتباره المؤسس الفعلي للديانة المسيحية، قد صاغ الكثير من معتقداتها، فإن معتقد التثليث لم يكن من ضمن المعتقدات التي صاغها، غير أنه أرسى أسس هذا المعتقد عندما نادى بفكرة أن المسيح (ابن مقدس). فالابن يحتاج الأب، ومن الأفضل أن تكون هناك وسيلة يوحي من خلالها الله إلى البشر، ويمكننا القول أو بولس قد ذكر الأسماء الرئيسية، ثم قام رجال الدين المسيحي بعد ذلك بتجميع هذه الأفكار في معتقد واحد.
وكان أول من استخدم كلمة "تثليث" هو ترتوليان، وهو محام وكاهن عاش في قرطاجة خلال القرن الثالث الميلادي، عندما أعلن نظريته التي تقول بأن الابن والروح القدس يشتركان في كينونة الإله، وإن كانا هما والأب عبارة عن كيان واحد.
وهنا بدأت صياغة معتقد رسمي واحتدم النـزاع حول موضوع التثليث في عام 318 بين رجلي دين من الاسكندرية، هما آريوس شمّاس كنيسة الاسكندرية وألكسندر مطرانها، وتدخل الإمبراطور قسطنطين في النـزاع.
ورغم أن العقيدة المسيحية كانت تمثل لقسطنطين لغزاً لا يقدر على فهمه، إلا أنه أدرك أن وجود كنيسة موحدة أمر ضروري لكي تحافظ مملكته على قوتها، وعندما فشلت المفاوضات في حسم الأمر، دعا قسطنطين إلى عقد المجلس الكنسي الأول في تاريخ الديانة المسيحية لحسم هذا النـزاع.
وبعد ستة أسابيع، في عام 325، اجتمع ثلاثمائة من المطارنة في نقوسيا، وانتهى المجلس الكنسي الأول إلى فرض مبدأ التثليث، وبدءاً من ذلك الحين، أصبح الإله الذي يؤمن به المسيحيون يتكوّن من ثلاثة كيانات، أو طبائع، في هيئة الأب والابن والروح القدس.
الكنيسة ترمي بثقلها
ولكن الموضوع ظلّ أبعد ما يكون عن الحسم، بالرغم مما كان يأمل فيه الإمبراطور قسطنطين، وبدأ آريوس يتناقش مع مطران الاسكندرية الجديد، وهو أثناسيوس، حتى أثناء توقيع القانون الإيماني النيقوسي، ومنذ ذلك الحين أصبحت "الآريوسية" صفة لكل من لا يؤمن بالتثليث.
غير أن القانون الإيماني النيقوسي ـ القسطنطيني لم يكتسب صفة الرسمية إلا في عام 451 بموافقة البابا، خلال انعقاد المجلس الكنسي في تشالسيدونيا، واعتبر التفوّه بما يعارض التثليث كفراً وهرطقة، وكان نصيب من يفعلون ذلك أحكاماً تتراوح بين التشويه الجسدي والموت، وأخذ المسيحيون يقتلون ويشوّهون الآلاف من إخوتهم المسيحيين بسبب اختلاف الرأي.
ويستمر النقاش غير أن العقوبات الوحشية وأحكام الموت لم تُنْهِ الخلاف على التثليث، ولا يزال هذا الخلاف مستمراً حتى الآن.
واستمرّ أتباع مذهب الموحّدين المسيحي على إيمانهم بآراء آريوس في القول بأن الله واحد، ولا يؤمن أتباع هذا المذهب بالتثليث، ولذلك فإن غالبية المسيحيين يحتقرونهم، ولم يوافق المجلس القومي للكنائس على قبولهم، ويعتقد أتباع هذا المذهب أن هناك أملاً في أن يعود المسيحيون إلى تعاليم المسيح الحقة، التي نراها في الإنجيل في الآية التالية: "أعبد الرب إلهك، اعبده وحده" (لوقا، 4ـ8).
عراق الجديد- عدد الرسائل : 36
تاريخ التسجيل : 27/08/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى